لا يختلف اثنان في كون مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة يتيح فرصا عديدة للتخلص من عوالق الزمان وشوائب المكان، عبر أسفاره الموسيقية الروحية. وإبان ذلك، يحدث أن تحمل بعض المواعيد الفنية معاني وتجليات جديدة لمفهوم السفر الموسيقي.
حفل الفنانة لوزميلا كاربيو من بوليفيا كان موعدا استثنائيا بامتياز، حاولت من خلاله أن تعيد ترتيب بعض أفكارنا حول أصل الموسيقى وعلاقتها بوجودنا الملموس أو بالوجود الرباني المحسوس. ولعل إدماج أصوات الطيور في إيقاعاتها الموسيقية وإنشاداتها الشعرية كان محاولة موفقة منها للتذكير بأن الموسيقى أو الصوت الإنشادي هو صوت من أصوات الكون، لا يختلف في شيء عن أي صوت آخر منتشر في محيطنا الطبيعي، كصوت المياه أو الرياح أو الرعد أو سقوط الحجر؛ وبالتالي فالسفر الذي قد تتيحه الإيقاعات الموسيقية أو المقامات الإنشادية الشعرية هو سفر في الطبيعة، يعكس إشارات كونية تنبعث من فاعل واحد، يصدر جميع الأصوات، سواء تلك التي ندركها بحواسنا، أو التي نستشعرها بقلوبنا وأرواحنا.
الدكتور علي بنمخلوف (أستاذ الفلسفة بجامعة باريس) لم يفوت فرصة حضوره حفل الفنانة البوليفية لوزميلا كاربيو في متحف البطحاء بفاس، وعبّر عن روحانية إيقاعاتها واتحاد مقاماتها الموسيقية بالطبيعة والكون، والذي عكسته عبر الدمج المباشر والحي لصوت الطيور الخالص في عملها الفني. وأشار إلى أن مثل هذه الموسيقى تشكل لحظة تعلم إنساني صرف، يستعيد الفرد من خلالها معنى وعلة وجدوى وجوده والوظائف التي ينبغي أن يضطلع بأدائها في علاقتها بذاته وبمجتمعه وبمحيطه الطبيعي.
رقية تراوري: إفريقيا الجميلة
من جهة أخرى، أحيت الفنانة المالية رقية تراوري عشية السبت المنصرم في متحف البطحاء حفلا اختارت له عنوان "إفريقيا الجميلة"، فكانت أغانيها مزيجا خلاقا ما بين استلهام الموروث الثقافي والتقاليد العريقة لدولة مالي وبين توظيف المرجعية الموسيقية الغربية. ومع ذلك، ظل صوت المطربة رقية ـ كما لاحظ ذلك الجمهور ـ متمردا عن أي قوالب جمالية ضيقة.
والجدير بالذكر أن الأسفار الكثيرة التي قامت بها الفنانة رقية تراوري في العديد من بلدان العالم (بحكم عمل والدها في السلك الدبلوماسي) مكنتها من الاحتكاك عن كثب بأحدث الاجتهادات الموسيقية، وكذلك من تطوير أدائها ومهارتها التي جعلتها تحظى بتقدير وإعجاب الجمهور والنقاد والهيئات الفنية العالمية.
روبيرتو ألنيا: المتوسط
تحت عنوان "المتوسط"، احتضن فضاء "باب المكينة" مساء السبت حفلا فنيا أنجزه الفنان الفرنسي روبيرتو ألنيا خصيصا لمهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة، ونهل فيه من معين التراث المتوسطي ولاسيما في تجلياته الشعبية، مزاوجاً في غنائه المندرج ضمن مقامات "التينور" بين مقاطع الفرح والأغاني الشجية. وقد اجتذب صوته القوي الجمهور الذي امتلأت به جنبات الفضاء المذكور.
يذكر أن الحفلات الموسيقية لمهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة يستمر إحياؤها طيلة أيام الأسبوع الجاري، وستتوج بمشاركة عربية يوم الجمعة المقبل للفنان العراقي كاظم الساهر الذي من المنتظر أن يقدم لجمهور المهرجان بفضاء "باب الماكينة" طبقا موسيقيا وفنيا متنوعا يضم أغان ذات بعد روحي.
احتفاء بنيلسون مانديلا
على صعيد آخر، خصص المهرجان نوعين من التكريم للزعيم السياسي الراحل نيلسون مانديلا، تكريم على مستوى الموسيقى، وآخر على المستوى الفكري.
التكريم الموسيقي تمثل في الحفل الذي أحياه الفنان السينغالي يوسو ندور مساء الأحد في فضاء "باب الماكينة" بمعية الفنان جوني كليغ (من جنوب إفريقيا). وهو حفل أعاد التذكير بالسمة النضالية للفنانين كليهما، باعتبار أن يوسو نظم في عام 1985 مهرجان دكار من أجل إطلاق سراح الزعيم المذكور، أما جوني كليغ فقد ربط موسيقاه بالمعركة ضد نظام الميز العنصري "الأبارتايد" الذي كان يحكم جنوب إفريقيا بقبضة من حديد ونار.
في حين حاولت الندوة العلمية التي حضرتها ثلة من الباحثين والمفكرين في مجالات التاريخ والفكر السياسي والأدب الصوفي، استعادة جوانب من المسار النضالي لمانديلا، وفق منهج استقرائي توقف عند المميزات العامة لشخصيته السياسية، متجاوزا تقديم بورتريه دقيق قد يغيب البعد العالمي لتجربة تلك الشخصية.